تمر هذه الأيام الذكرى الخمسون للعدوان الثلاثي، البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، على مصر في أكتوبر- نوفمبر 1956. كان السبب المباشر للعدوان هو تداعيات القرار التاريخي لجمال عبدالناصر بتأميم "الشركة العالمية لقناة السويس" البحرية، رداً على سحب الولايات المتحدة -ومن خلفها بريطانيا كالمعتاد- عرضها تمويل بناء السد العالي في مصر، والذي كانت قد تركزت فيه آنذاك طموحات التنمية الوطنية المستقلة لمصر. وعندما يتوقف المرء عند ذكرى تاريخية كانت لها تداعياتها الفارقة، فإن التوقف يكون عادة لاستيعاب الدلالات والدروس والعبر، وقد كتب المؤرخ البريطاني هيو توماس دراسة شهيرة عن حرب السويس وصفها فيها بأنها درس بلا نهاية، غير أن المفارقة التي يعيشها العالم اليوم تتمثل في أن أحداً لا يبدو مستعداً لفهم دروس عدوان السويس، ناهيك عن أن يهتدي بها في مواقفه وقراراته، وكأن التاريخ يدق أجراسه لمجموعة من الصم الذين لا يسمعون طرقاتها المدوية، بل ولا تلفت أنظارهم الحركة الدؤوبة لهذه الأجراس. دروس العدوان الثلاثي على مصر متعددة الأوجه وبالغة الأهمية، ولنحاول الإطلالة عليها مثلاً من نافذة اليوم الثالث للعدوان (31 أكتوبر 1956)، أي الذي يصادف نشر هذا المقال مرور خمسين عاماً كاملة عليه. في الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم كانت المدمرة المصرية "إبراهيم" تقصف بضراوة ميناء حيفا الإسرائيلي لمدة تقارب الساعتين، في إشارة للجسارة والمستوى الرفيع اللذين تميز بهما الأداء القتالي المصري في مواجهة العدوان الإسرائيلي. وجدير بالذكر أن إصابة المدمرة "إبراهيم" بعد ذلك الهجوم قد ترتب على معركة دارت بينها وبين سفينة حربية فرنسية، تأكيداً للتواطؤ البريطاني- الفرنسي. وبعد ظهر اليوم نفسه صدر القرار المصري بسحب القوات المصرية من سيناء بعد أن تكشفت أبعاد المؤامرة الثلاثية: استدراج إسرائيل للجيش المصري إلى سيناء لتهيئة العمق المصري للتدخل البريطاني- الفرنسي بحجة حماية قناة السويس. في اليوم نفسه أيضاً نتوقف عند استقالة الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك داج همرشولد احتجاجاً على الإنذار البريطاني- الفرنسي الذي كان قد وجه لمصر في اليوم السابق، في إشارة إلى زمن ولى كان شاغلو منصب دولي رفيع كهذا المنصب، أصحاب رسالة وليسوا مجرد موظفين تشغلهم حسابات البقاء في مواقعهم. بعد هذه الإطلالة الجزئية، ربما يكون من المناسب أن نتوقف عند ثلاث قضايا بدت شديدة الوضوح في سياق العدوان: منطق القوة في إخضاع الشعوب، وصمود الشعوب في مواجهة هذا المنطق، والتواطؤ الدائم لقوى الهيمنة العالمية مع إسرائيل. في البدء نلاحظ أن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كان مثالاً فظاً لاستخدام دول الهيمنة العالمية لأسلوب القوة في إخضاع الشعوب التي تجرؤ على مقاومة هيمنتها، فلم يكن العدوان عقاباً لمصر على تجرئها بتأميم شركة قناة السويس فحسب، ولكنه أيضاً كان محاولة لتصفية الحساب مع ثورتها التي تصدت بنجاح لمحاولات ربط الوطن العربي بسلسلة الأحلاف الغربية، وكسرت احتكاره توريد السلاح للبلدان العربية، وبدأت تلعب دوراً فاعلاً في دعم حركات التحرر من الاستعمار في هذه البلدان عامة وفي الجزائر بصفة خاصة. ولقد أحدث استخدام القوة بدم بارد على ذلك النحو، ما أحدث من خسائر بشرية وتدمير مادي، لكنه أخفق أخيراً في تحقيق هدفه الاستراتيجي ألا وهو إسقاط السياسة المصرية المناوئة للمصالح الغربية. في الدرس الثاني يشير العدوان إلى حقيقة التواطؤ الدائم لقوى الهيمنة الدولية مع إسرائيل. كانت نشأة دولة إسرائيل عام 1948، وفي الأساس، عملاً من أعمال التواطؤ الدولي عندما انسحبت قوات الانتداب البريطاني في فلسطين، في واقعة غير مسبوقة، كي تخلي الطريق لإعلان قيام دولة إسرائيل. ثم يلي ذلك التواطؤ السري الذي أخذ من خلال عدوان 1956 شكل مسرحية رديئة سرعان ما تكشفت أبعادها وأطاحت بكل المشاركين فيها وكشفت مدى التردي الأخلاقي الذي وصل إليه مسؤولو دول العدوان؛ إذ مارسوا الكذب بحق شعوبهم وتجاه العالم كله، وادعوا أن ثمة قتالاً مصرياً- إسرائيليا يقتضي تدخلاً من جانبهم لحماية قناة السويس! واستمر تواطؤ قوى الهيمنة مع إسرائيل بعد العدوان الثلاثي، كملمح دائم لكافة الأعمال العدائية التي قامت بها الدولة العبرية ضد العرب؛ في عام 1967 وفي عام 1973... وصولاً إلى العدوان الأخير على لبنان، والذي ما زال الدعم الأميركي له ماثلاً أمام أعيننا، كمدد بالسلاح وكتأييد بالمساندة الدبلوماسية المُطلقة. ورغم كل هذا أظهرته الشعوب عموماً والشعوب العربية خاصة، من قدرة فائقة على التحدي والصمود، وفي عدوان 1956 تحديداً، فإنه لابد للأجيال الجديدة أن تقرأ جيداً سجل المعارك التي أثبتت فيها العسكرية المصرية قدراتها الفائقة، رغم صدمة المفاجأة والتواطؤ الدولي، وليست معارك أبو عجيلة وشرم الشيخ وبورسعيد... التي تكبدت فيها القوات المعتدية خسائر فادحة، واقتدار الطيران والبحرية المصريين على ضرب الأهداف المعادية في عمق فلسطين المحتلة، إلا أمثلة ناصعة في هذا الصدد، ناهيك عن تلاحم الشعب المصري مع قيادته، وتلاحم الشعوب العربية جميعاً في رفضها للعدوان، بل ومبادرة قطاعات منها بأعمال أثرت سلباً في المجهود الحربي للمعتدين. ورغم أن عدوان 1967 أوقع بالعرب هزيمة فادحة، فإنه لم يكن خلواً بدوره من معارك تشهد للعسكرية العربية بالشجاعة والكفاءة والبطولة، وإن كانت حرب أكتوبر 1973 تكفينا للاستشهاد في هذا الصدد، ومعها تأتي إنجازات المقاومة الفلسطينية على مدى عقود وبصفة خاصة خلال انتفاضتي الحجارة والأقصى... كما تأتي أيضاً إخفاقات العسكرية الإسرائيلية في لبنان منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن... لتؤكد خور القوة الإسرائيلية وهشاشتها في واقع الأمر. ورغم أن كل هذه الدروس بالغة الوضوح، فإن أحداً لا يبدو أنه يريد أن يتعلم، فبعد أقل قليلاً من خمسين عاماً على عدوان السويس، ها هو الرئيس الأميركي جورج بوش يكرر اللجوء إلى منطق القوة كسبيل لتحقيق أهداف سياسته الخارجية، ولو أنه عُنِيّّ قليلاً بدروس التاريخ، لأدرك قبل أن يقدم على فعلته في أفغانستان والعراق، أن مآل استراتيجيته هناك لا يمكن أن يختلف عن مآل من سبقوه، لكنه احتاج، على ما يبدو، إلى ثلاث سنوات من المكابدة كي يكتشف حجم المشكلات التي تحيط باستخدامه للقوة في العراق، ومع ذلك فإن شيئاً لا يبدو أنه تغير أو سوف يتغير في سياسته! ومن ناحية ثانية يبدو كثير من العرب الرسميين، وكأنهم يتصرفون بمعزل عن حقيقة التلاحم العضوي الكامل بين قوى الهيمنة العالمية وإسرائيل، إذ يصرون على النظر إلى هذه القوى باعتبارها وسيطاً نزيهاً بينهم وبينها، بل أداة محتملة للضغط عليها باتجاه استرداد الحقوق العربية! وأخيراً فإن معظم العرب الرسميين في إدارتهم للصراع العربي- الإسرائيلي، والقائمة على "الخيار الاستراتيجي الوحيد"، لا يبدون وكأنهم يقدرون مدى عقم استخدام أسلوب القوة ضدهم. ذلك أن الحركة الصهيونية، ومن خلفها التواطؤ الدولي عبر ما يزيد على قرن من الزمان، أخفقت في تحقيق سيطرة مستقرة على فلسطين التي لا تعدو أن تكون بقعة صغيرة من الأرض يسكنها شعب عربي قليل العدد، فما بالنا بالقدرة على إخضاع أمة يناهز عدد سكانها ثلث المليار، بل لعله تجاوز هذا الرقم إذا أضفنا امتداداتهم خارج الوطن العربي. مع ذلك فمن يستمع إلى بعض السياسيين الفلسطينيين، وهم يتحدثون بحسم وعزم منقطعي النظير عن أن الطريق الوحيدة للمستقبل هو في الاعتراف بإسرائيل ووقف المقاومة والاستجابة لشروط "الرباعية الدولية"... لابد أن يندهش من الكيفية التي يدرك بها البعض حقائق الواقع، ناهيك عن أن يكون هذا البعض ممن حملوا السلاح يوماً وأبلوا بلاءً حسناً في مقاومة الاستعمار الصهيوني! تبدو دروس العدوان الثلاثي إذن بعد خمسين عاماً على وقوعه، وكأن أحداً لا ينتبه إليها، فلا الدول الساعية إلى الهيمنة فهمت درس استحالة إخضاع الشعوب بالقوة، ولا الدول المعرضة لمحاولات الهيمنة تبدو مؤمنة بجدوى التصدي لها وقيمة النضال لدحرها... فلمن تدق أجراس التاريخ إذن؟
|