مأزق الاتفاقية الأمنية الأمريكية-العراقية
|
20/11/2008
| الملف العراقي
| مصادر أخري
|
|
أخيراً، وبعض مفاوضات وسجالات دامت شهوراً، أقرت الحكومة العراقية في السادس عشر من الشهر الجاري (نوفمبر2008) الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة، وقد سبق هذا الإقرار قدر من الارتباك الشديد الذي ساد سلوك الحكومة العراقية تجاه توقيع الاتفاقية، على نحو أوحى بأنها لن تكون سوى فصل من فصول المأساة العراقية المتجددة منذ احتلال العراق. ولا يستطيع المرء طبعاً أن ينكر أن ثمة علامات إيجابية متناثرة هنا وهناك قد ظهرت في الأفق السياسي العراقي في الآونة الأخيرة، لكن التفاعلات السياسية العراقية والإقليمية والعالمية التي سبقت توقيع الاتفاقية تؤكد أنها لا تمثل خروجاً من المعضلة العراقية الراهنة، وإنما هي مجرد تجسيد لها. وإذا عدنا لمقولة السلوك المرتبك من قبل الحكومة العراقية قبل توقيع الاتفاقية قد يكون من المناسب أن نرجع إلى شهور طويلة مضت عندما بدا توقيع الاتفاقية بين الطرفين مسألة بديهية، وكان وزير الخارجية العراقي النشيط يزف إلينا من حين لآخر بشرى تقدم المفاوضات بشأنها وصولاً إلى تتويج هذه المفاوضات بالنجاح. ثم بدت الحكومة العراقية مترددة بشأن توقيع الاتفاقية، وأظهر سلوكها اللاحق أن العامل الإيراني هو السبب، فقد ذهب ممثلوها إلى طهران للحصول على مباركتها الاتفاقية، لكنهم عادوا صفر اليدين، أو بالأحرى بحصيلة سالبة تمثلت في تصريحات إيرانية عليا غير راضية عن الاتفاقية. وكانت إيران كالدول العربية قد تكيفت مع واقع الاحتلال الأمريكي للعراق، وامتنعت عن المجاهرة بضرورة إنهائه طالما أنه يمهد لها الطريق لمزيد من النفوذ في العراق، بل أعرب بعض المسؤولين فيها أحياناً كأشقائهم العرب- عن خشيتهم من انسحاب أمريكي مفاجئ يمكن أن يسبب فوضى عارمة، لكن الأمور مع الاتفاقية الأمنية أخذت وجهة أخرى، فهي تقنن وجوداً عسكرياً أمريكياً دائماً في العراق، وتمنح هذا الوجود "حق الدفاع عن النفس" فيما يمكن أن يسوغ عدواناً على دول مجاورة، الأمر الذي يتعارض بالتأكيد مع المشروع الإقليمي الإيراني في المنطقة. على الصعيد الداخلي في العراق من الواضح أن ثمة قوى عراقية شديدة الحماس للاتفاقية، كإخوتنا الأكراد الذين عرض المسؤولون عن إقليمهم من فرط حماسهم هذا أن يستضيفوا القواعد العسكرية الأمريكية في العراق إذا رفضت باقي مكونات الشعب العراقي ذلك، وكأن هذه القواعد سوف تفقد ضررها لمجرد وجودها في إقليم كردستان، وكأن هذا الإقليم دولة مستقلة وليس جزءاً من العراق، ولم يخفف أولئك المسؤولون تلك التصريحات العجيبة إلا بعد أن تعرضوا لنقد لاذع من كافة الفعاليات السياسية العراقية بمن فيهم رئيس العراق الكردي نفسه، كذلك فإن بعض سنة العراق بدوا متخوفين من رحيل القوات الأمريكية تحسباً لأثر هذا الرحيل على تمدد النفوذ الإيراني، وبالمقابل فإن هناك من شيعة العراق من أبدى تحفظه على الاتفاقية مع بعض المرونة، ومن هدد? كالمرجع الشيعي السيستاني- بأن يعارضها إن وجد فيها مساساً بسيادة العراق، ومن عارضها معارضة صريحة ودعا إلى استئناف مقاومة الاحتلال حال إقرارها، كالتيار الصدري وصولاً إلى قوى المقاومة التي لا ترى نهاية للوضع الراهن سوى خروج قوات الاحتلال. وتظهر هذه الخريطة العراقية-الإقليمية للموقف من الاتفاقية تعقد المأزق الاستراتيجي الذي واجهته الحكومة العراقية، فهي لم تكن تستطيع أن توافق ببساطة وإلا أغضبت طهران الصديقة، أو تعترض ببساطة وإلا أغضبت القوات الأمريكية التي ما تزال تقوم بدور فعال في مساندتها، ولذلك ارتبكت خطواتها قبل التوقيع من التصريح في السابع من شهر نوفمبر الجاري، غداة تسلم الرد الأمريكي النهائي على مطالبها بتعديل الاتفاقية، بأنها ما تزال في حاجة إلى وقت كافٍ ولقاءات مجددة مع الجانب الأمريكي لبحث نقاط الخلاف الباقية، إلى قول مصادر مقربة منها بعد ذلك بيومين بأنه لن تكون هناك مفاوضات جديدة، وأن المطروح على الحكومة العراقية إما القبول وإما الرفض، وبعد يومين آخرين (11/11) يصرح الناطق باسم الحكومة بأن ما أدخل من تعديلات غير كافٍ، ويطالب بتعديلات أخرى إن كانت الولايات المتحدة تريد موافقة البرلمان العراقي على الاتفاقية، وفي اليوم نفسه يصرح مسؤول بالحكومة العراقية بأنها حسمت موقفها من الاتفاق بالإيجاب، وترسل الحكومة العراقية رسالة طمأنة إلى جامعة الدول العربية بأن الاتفاق لا يمس استقلال العراق وسيادته، ولا يشكل خطراً على دول الجوار، وبعد ذلك بيومين تؤكد مصادر حكومية عراقية أن التوقيع بات مسألة يوم أو اثنين فيما يدعو الرئيس العراقي نظيره الأمريكي في الوقت نفسه للموافقة على التعديلات التي تطلبها الحكومة العراقية، حتى يمكن للقادة العراقيين أن يعرضوا الاتفاق على البرلمان والشعب في العراق وهم "مرفوعو الرأس". المشكلة أن كل هذه الهواجس لم تتم معالجتها قبل توقيع الاتفاقية، ويزيد الأمور تعقيداً أن أي محاولة لاستجلاء وجه الحقيقة في كل ما يقال حول الاتفاقية تصطدم حتى الآن بغياب شبه تام للشفافية، فكل المناقشات الدائرة بشأن هذه الاتفاقية لا تستند إلى نص رسمي لمسودتها، وإنما إلى تسريبات يمكن أن تكون صحيحة، لكن الحكم عليها موضوعياً لا يكتمل ما لم تقرأ المسودة بالكامل، وعلى سبيل المثال فإن الحكم على ما يقال من أن الاتفاقية سوف تضمن انسحاب القوات الأمريكية في 31/12/2011 لا يمكن أن يكتمل إلا إذا عرفنا طبيعة الوجود العسكري الأمريكي في العراق الذي تؤسس له هذه الاتفاقية، وعرفنا النص الدقيق لحق أي من طرفيها في المطالبة باختصار مدة بقاء القوات أو مدها، والحكم على أن الاتفاقية لن تشكل تهديداً لدول الجوار لا يمكن أن يكتمل إلا إذا قرأنا بدقة صياغة البند الخاص بحق أي من طرفي الاتفاقية في الدفاع عن نفسه، وأخيراً وليس آخراً فإن الحكم على الاتفاقية ككل لا يمكن أن يكتمل ?بعيداً عن النقاط التي سرقت الأضواء كموضوع الحصانة القضائية للجنود الأمريكيين والخطر على أمن دول الجوار- إلا إذا قرأنا الاتفاقية ككل لكي نعرف حقيقة البند الذي يبدو أنه يديم بشكل أو بآخر الطريقة التي تهيمن بها الإدارة الأمريكية على ثروات العراق بموجب قرار مجلس الأمن رقم1483، وهي مسألة بالغة الخطورة لم تحظ للأسف بنقاش يذكر حتى الآن، ومن المأمول أن تكون مناقشة البرلمان للاتفاقية يوم الرابع والعشرين من الشهر الجاري (نوفمبر2008) مناسبة لحل معضلة الشفافية، اللهم إلا إذا جرت المناقشة في إطار من السرية. إن النهاية الطبيعية لأي احتلال هي زواله، وليس توقيع اتفاقية أمنية مع المحتل، وعلى القوى السياسية العراقية أو على الأقل التيارات الرئيسية فيها أن تحاول الوصول إلى قواسم مشتركة في هذا الصدد، وإلا كانت هذه الاتفاقية مجرد خطوة جديدة في سيناريو قديم لن يضع العراق على بداية طريق المستقبل، وإن كان مما يصيب المرء بغصة في الحلق الشعور بأن جزءاً يعتد به من معارضة بعض القوى السياسية الاتفاق ينبع من التأثر بالسياسة الإيرانية أكثر من الحرص على استقرار العراق وسيادته، وإلا فما معنى القبول بالاتفاقية في جوهرها القائم على إدامة الوجود العسكري الأمريكي في العراق والاعتراض فقط على أن يكون هذا الوجود خطراً على الغير؟ أما السياسات العربية الرسمية فهنيئاً لها أن نأت بنفسها عن مشكلات هذا الاتفاق، مع أنه منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمان عقد العراق اتفاق تحالف مع تركيا، واعتبرت مصر في ذلك الوقت أن هذا الحلف يمس أمنها وأمن الدول العربية جمعاء، ونجحت من خلال حملة سياسية ضارية في أن توقف امتداده عبر حدود العراق إلى أية دولة عربية أخرى انتهاءً بخروج العراق نفسه من الحلف بعد أن انهار النظام الذي رضي الدخول فيه، لكن الليلة لا تشبه البارحة من قريب أو بعيد.
|
أعلى الصفحة
|
تعليقات القراء
|
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها
|
|
|
|
|