|
أدلى وزير الخارجية المصري مؤخراً بحديث إلى إحدى المجلات المصرية أجاب فيه على سؤالين يتعلقان بفكرة إرسال قوات عربية إلى غزة، وبمجرد نشر الحديث تناولت الفكرة أجهزة إعلام شتى باعتبارها فكرة مصرية، وهو لبسٌ ينبغي إيضاحه من البداية. فواقع الأمر أنّ الوزير قد وجه له السؤال التالي: "يدور الحديث حول إدخال قوات عربية إلى غزة لإنهاء الوضع الراهن. هل يمكن تنفيذ هذه الفكرة ومتى؟" وكانت إجابته عليه ما نصه: "هذه فكرة مطروحة، ويجب أن يُنظر إليها باهتمام شديد، وأن تتم دراستها؛ لأن وجود قوات عربية على الأرض يمكن أن يساعد على منع الاقتتال ووقف الصدام الإسرائيلي-الفلسطيني، ويمكن أن يتيح للفلسطينيين إعادة بناء إمكانياتهم داخل القطاع وبشكل يحقق الوئام". ثم وجه إليه سؤال آخر حول الموضوع نفسه كان نصه: "هل ستطرح فكرة استقدام قوات عربية إلى غزة خلال الحوار الشامل للفصائل الفلسطينية؟"؛ فأجاب الوزير بقوله: "هذه الفكرة لا تأتي إلا بعد صياغة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وبعد الدراسة المناسبة، لأنني أتحدث عنها والأمر لم يطرح للدراسة بعد، ولكنها فكرة جذابة تستحق أن تؤخذ بالجدية الواجبة عندما نتصور أن مصر والجامعة العربية يمكن أن تقوما بدور في هذا الشأن".
الفكرة إذن ليست مصرية أساساً، بدليل أن السؤال الأول للوزير المصري بدأ بالقول: "يدور الحديث حول إدخال قوات عربية إلى غزة..."، وليس بالقول مثلاً: "هناك فكرة مصرية لإرسال قوات عربية إلى غزة...". والواقع أن فكرة إرسال قوات عربية إلى غزة طرحت أولاً في أحد المواقع الإسرائيلية على شبكة المعلومات الدولية، وقد أشير في هذا الموقع إلى أنه بعد إتمام المصالحة الفلسطينية التي بدأ الحوار حولها في القاهرة سيتم إجراء إصلاحات في الأجهزة الأمنية الفلسطينية وسيقترن ذلك بإرسال قوات عربية تضم نحو ثلاثة آلاف رجل أمن عربي إلى قطاع غزة، معظمهم من مصر، وستكون هذه القوة تحت قيادة مصرية. أما المرة الثانية التي سبقت حديث وزير الخارجية المصري فكانت تصريحات نسبت إلى سلام فياض رئيس الوزراء المؤقت للسلطة الفلسطينية تحدثت عن مساعدة عربية في إصلاح الشرطة وقوات الأمن الفلسطينية على أساس مهني، وإرسال قوات عربية إلى قطاع غزة تساهم في تلك العملية. من ناحية أخرى، صحيح أن الوزير المصري رأى في الفكرة جوانب إيجابية، لكنه من جانب آخر طالب بإخضاعها للدراسة، واشترط لتنفيذها إعادة صياغة الوحدة الوطنية الفلسطينية. وفي هذا السياق يمكننا أن نناقش هذه الفكرة؛ ففي بعض القضايا يجد المحلل نفسه متأرجحاً بين رفض فكرة ما أو قبولها لوجود مزايا لكل من الرفض والقبول، فتكون مساهمته في هذه الحالة هي إبراز جوانب القوة والضعف في فكرة ما، غير أنه في أحيان أخرى تكون الأمور واضحة للغاية بحيث يستطيع المحلل أن يتبنى وجهة نظر قاطعة بالرفض أو القبول، وأحسب أن فكرة إرسال قوات عربية إلى غزة يمكن أن ترفض على نحو قاطع استناداً إلى عدد من المبررات القوية.
وأول مبررات الرفض هو أن الفكرة ليست موضع إجماع فلسطيني؛ إذ تكاد فتح أن تكون هي الفصيل الفلسطيني الأساسي الوحيد الذي يؤيد الفكرة، وقد أعلنت بعض الفصائل الفلسطينية معارضتها الصريحة للفكرة، وتأتي حماس، صاحبة السيطرة الفعلية على قطاع غزة، في طليعة الرافضين بطبيعة الحال؛ لأن وجود هذه القوات من شأنه أن يصفي هذه السيطرة، أو على الأقل يوجد قوة موازنة يعتد بها في مقابل قوة حماس، ولذا فإن الفكرة تبدو مفارقة تماماً للواقع؛ لأن دخول قوات عربية إلى غزة سوف يقابل بمقاومة من حماس، وسوف يكون المشهد مأساوياً؛ فبعد أن تعودنا على عدم التفكير مطلقاً في إمكانية أن تساند قوات عربية الفلسطينيين في مواجهتهم مع إسرائيل سوف يكون علينا أن نقبل صداماً عربياً-فلسطينياً بدعوى تحقيق الوئام الأهلي في غزة، ومن هنا تأتي أهمية ما طرحه وزير الخارجية المصري من أن إعادة تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية شرط مسبق لتطبيق الفكرة، وعندما يتحقق هذا الشرط سوف يكون السؤال: لماذا قوات عربية في غزة فقط، وليست في الضفة أيضاً طالما أن لوجودها كل هذه المزايا؟
ثاني مبررات الرفض أن الفكرة ليست موضع إجماع عربي، والنظام العربي الرسمي ليس بحاجة في وضعه الراهن بالتأكيد إلى مزيد من عوامل الانقسام، ومع أن وزير الخارجية المصري قد تصور أن مصر والجامعة يمكن أن تقوما بدور في هذا الشأن؛ فإن الأمين العام للجامعة عارض على نحو مباشر وصريح الفكرة مستبعداً أن تساعد مثل هذه القوات على حل الأزمة الفلسطينية، ومؤكداً أن الحل الوحيد لها هو المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية.
ويتعلق ثالث مبررات الرفض بالعامل الإسرائيلي؛ فصحيح أن بعض المصادر الإسرائيلية قد ترى في الفكرة جوانب إيجابية من المنظور الإسرائيلي (على الأقل المساعدة في التخفيف من كابوس حماس، والحلم بأن يؤدي تطبيق الفكرة إلى إعادة المسؤولية عن قطاع غزة إلى مصر، وهو ما ترفضه الأخيرة رفضاً قاطعاً)، ومع ذلك فإنه لا يمكننا أن نتصور أن إسرائيل سوف تقبل ببساطة وجود قوات "ردع" عربية حقيقية في قطاع غزة، وسوف يكون لها بالتأكيد شروطها في عديد هذه القوات وتسليحها؛ لأنها بداهة ليست مستعدة لأدنى احتمال لدور قد تضطر هذه القوات للقيام به لا يصب في المصالح الإسرائيلية.
تتصل بهذا نقطة بالغة الحساسية تتعلق بحسابات إسرائيل الأمنية التي لا تجعلها تتردد لحظة واحدة في القيام بعمليات عسكرية محدودة أو واسعة النطاق في قطاع غزة حال شعورها بوجود تهديد أمني لها يكون مصدره قوى القطاع، فكيف سيكون موقف هذه القوات حينئذ، ومهمتها هي الفصل بين الفلسطينيين وإسرائيل وليست محاربتها؟ إما أن تقف متفرجة على ذبح أبناء الشعب الفلسطيني، وهو عار لا يمكن احتماله. وإما أن تجد نفسها مضطرة للجوء إلى السلاح، ولو من قبيل الدفاع عن النفس، وهنا لن يمكنها عديدها وتسليحها إلا من شرف المحاولة، فنكون بذلك قد تقهقرنا إلى الوراء خطوات عديدة بعد أن شهدت السنوات الأخيرة نجاحات لافتة للمقاومة اللبنانية والفلسطينية في التصدي للأعمال العدوانية الإسرائيلية.
آخر مبررات الرفض يتعلق بتوقيت طرح الفكرة؛ فقد طرحت كما نرى في المراحل التمهيدية لجهود حقيقية تقوم بها مصر لرعاية حوار فلسطيني-فلسطيني يؤمل منه أن يفضي إلى إعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية، أو على الأقل ترميمها، ومن شأن طرح الفكرة في هذا التوقيت تخريب جهود هذا الحوار؛ لأن الفكرة كما سبقت الإشارة مثار خلاف فلسطيني-فلسطيني حقيقي؛ فأي البديلين أفضل للدبلوماسيتين المصرية والعربية: أن تسعيا قدر المستطاع لتحقيق نجاح يبدو صعباً للحوار الفلسطيني-الفلسطيني الذي لا غنى عنه لوضع النضال الفلسطيني على المسار الصحيح مرة ثانية؟ أم أن تصبا على النار الفلسطينية المشتعلة مزيداً من زيت "القوات العربية" فيزداد انحراف ذلك النضال عن مساره استمراراً لتطورات عبثية نرى بأعيننا تداعياتها الخطيرة على قضية نقول إنها قضيتنا الأولى؟
|