أزمة العلاقات الكويتية-العراقية
|
24/06/2009
| قضايا عربية
| مصادر أخري
|
|
شهدت نهاية الشهر الماضي (مايو 2009) وما
انصرم من الشهر الحالي نذر أزمة جديدة في العلاقات العراقية-الكويتية، ثمّ
مؤشرات واقعية على حدوث الأزمة وتفاقمها، ومن الضروري أن تحظى هذه الأزمة
بالاهتمام الواجب، أولاً؛ لأنها فضلاً عن أهميتها لمستقبل هذه العلاقات لا
بدّ من أن تنعكس على استقرار منطقة الخليج ككل، وثانياً؛ لأن لها دلالاتها
المهمة بالنسبة إلى نموذج الصراعات العربية-العربية عامة، والبؤر المتفجرة
في هذا النموذج خاصة.
يحفل تاريخ العلاقات الكويتية-العراقية بأزمات عديدة يضيق المجال عن
ذكرها، لكن اللافت أنها كانت قد بدأت تقريباً مع نشأة العراق ككيان سياسي
بحدوده الحالية، وأن موضوعاتها، وإن تنوعت، تمسّ في عديد من حلقاتها قضايا
شديدة الحساسية بالنسبة للسلامة الإقليمية الكويتية، بل لبقاء الكيان
الكويتي ذاته، كما تُظهر ذلك مطالبات الملك غازي في ثلاثينات القرن الماضي
وعبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق في 1961 بضم الكويت، وضمها بالقوة
فعلاً في عهد صدام حسين في عام1990.
يعني هذا أن أخطر ما في أزمات العلاقات الكويتية-العراقية أنها لا ترتبط
بطبيعة النظام الحاكم في العراق، وأنها تكاد تعكس إجماعاً وطنياً عراقياً،
وللأسف فإن الأزمة الأخيرة تنتمي إلى هذا النوع شديد الحساسية والذي يتعلق
بالسيادة والحدود والمطالب الإقليمية. وعندما تمت تسوية المشكلات العالقة
بين الكويت والعراق في أعقاب تحرير الأولى من الغزو العراقي في 1991 بضغط
الانتصار العسكري على العراق وتدخل الأمم المتحدة، كان هناك من تفاءل بأن
أزمة العلاقات بين البلدين قد وضعت أوزارها أخيراً، غير أن مجموعة أخرى
-وكاتب هذه السطور منهم- تشاءم بأن التسوية قد تمت في ظل ظروف غير
طبيعية، ومن ثم فإنها قابلة للمراجعة مستقبلاً، وإن لم أتصور أن تأتي
الأزمة الجديدة بهذه السرعة؛ إذ شاع الوهم بأن العلاقة بين الكويت
والولايات المتحدة من جانب، والبصمة القوية للأخيرة على سياسة العراق في
أعقاب احتلاله 2003 من جانب آخر، سيفضيان إلى تأجيل الأزمة الجديدة، غير
أنها وقعت، وهو ما يعني أن لها دينامياتها الداخلية بعيداً عن المؤثرات
الخارجية.
بدأت الأزمة الأخيرة بملابسات سعي العراق إلى الخروج من طائلة الفصل
السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حتى يتخلص من تداعيات القرارات التي
أصدرها مجلس الأمن بعد غزوه الكويت في 1990، والتي رتبت عليه دفع تعويضات
وجمدت أصوله في الخارج، الأمر الذي يرى العراقيون أنه يكبلهم في هذه
المرحلة الصعبة من تاريخهم بأعباء مادية لا قبل لهم بها. وقد كثف العراق
مساعيه الدبلوماسية إقليمياً وعالمياً بمناسبة قرب انعقاد جلسة خاصة لمجلس
الأمن للنظر في الموضوع، وكان يفترض أن تنعقد في منتصف يونيو 2009، ثم
أصبح الحديث لاحقاً عن انعقادها في نهاية هذا الشهر.
وفي سياق هذا السعي اتضح موقف الكويت القائم على رفض إخراج العراق من
وصاية الفصل السابع طالما أنه لم يف بكل التزاماته بموجب القرارات التي
سبقت الإشارة إليها، ومن الجدير بالذكر أن العراق قد دفع تنفيذاً لهذه
القرارات 13 بليون دولار، فضلاً عن ديون مستحقة للكويت تقدر بـ16 بليون
دولار. وقد تجلى الموقف الكويتي في إبلاغ الأمم المتحدة رسمياً رفض الكويت
إبراء ذمة العراق قبل استكمال دفع التعويضات المالية، وبحث قضايا أسرى
كويتيين ورفات شهداء إبان الاجتياح العراقي للكويت 1990، بالإضافة إلى
رسائل بعث بها أمير الكويت مع مندوبين زاروا عواصم غربية لحثها على الضغط
على رئيس الوزراء العراقي للتراجع عن موقفه الداعي إلى حل القضايا بين
الكويت والعراق ثنائياً.
أخذ تصعيد الأزمة بعد ذلك مجراه، ولفت النظر مشاركة كل من دوائر السلطتين
التنفيذية والتشريعية في البلدين في هذا التصعيد. في البدء اتهم رئيس
الوزراء العراقي في السادس والعشرين من مايو الماضي (2009) دولاً لم يسمها
بأنها "تريد أن يبقى العراق تحت الرقابة الدائمة ضمن الفصل السابع"، وفي
الثلاثين من الشهر نفسه أبدى مصدر حكومي عراقي استغرابه من الموقف الكويتي
الذي رأى أنه "لا ينم عن رغبة حقيقية في دعم العراق الجديد"، مشيراً إلى
أن الحكومة الكويتية "تعلم جيداً أن ما جرى في تلك الفترة كان ضحيته الشعب
العراقي كما الشعب الكويتي، إلا أنهم يصرون على تحميل الشعب العراقي تبعات
نظام صدام حسين"، وأضاف: "قمنا بعشرات المبادرات لحلحلة الخلافات العالقة
مع الكويت، وأكدنا غير مرة دعمنا وتأييدنا واعترافنا التام بدولة الكويت
شعباً وأرضاً وحكومةً، وطالبنا بإلغاء الديون العراقية المستحقة للكويت،
إلا أنها رفضت جميع ذلك، ولا تزال تصر على دفع تعويضات تكلف العراق
الكثير".
ثم انتقل التصعيد إلى البرلمان العراقي في أول الشهر الجاري؛ حيث ذكر أحد
أعضاء لجنة الشؤون الخارجية أن البرلمان سيسأل الحكومة حول هذه القضية،
ولاسيما أنها هي التي أقنعت الكتل السياسية في البرلمان بأن توقيع
الاتفاقية الأمنية سيفضي إلى تخليص العراق من الالتزامات الدولية. وفي
البرلمان بدت أكثر مؤشرات التصعيد وضوحاً، إذ أدرجت قضية التعويضات
باقتراح من نائب مستقل وبموافقة إجماعية من باقي النواب، وأبدى عدد كبير
من النواب استياءه من الموقف الكويتي، ووصل الأمر ببعضهم إلى الدعوة لقطع
العلاقات بين البلدين.
رد البرلمان الكويتي على مؤشرات التصعيد "بأحسن منها"؛ إذ طالب عدد من
أعضائه في اليوم التالي مباشرة بعقد جلسة خاصة لمناقشة "ادعاءات عراقية"
تمس اتفاق ترسيم الحدود، ودعوة رئيس الوزراء العراقي إلى حل المسائل
العالقة بين البلدين ثنائياً. وتبارى نواب في توجيه أقسى الانتقادات إلى
العراق، ودعوا إلى سحب السفير من بغداد رداً على اتهام وزير عراقي الكويت
بـ"استقطاع أراضٍ من بلاده"، مهدداً بمطالبتها بإعادة ترسيم الحدود
وبتعويضات لأنها "سهلت الغزو الأمريكي"، واعتبر عضو في لجنة الشؤون
الخارجية ما حدث أمراً "بالغ الخطورة" ويرتبط "بسيادة الكويت"، كما هاجم
نائب آخر الحملة المسعورة التي تتعرض لها الكويت من "أزلام النظام
العراقي".
من ناحية أخرى رأى نائب عراقي من جبهة التوافق في إصرار الكويت على موقفها
تعكيراً لصفو العلاقات بين البلدين، وهي علاقات "كنا نغض الطرف عن مسائل
كثيرة لعدم تعكيرها"- أي إن الأزمة أوسع نطاقاً من مسألة التزام العراق
بقرارات الأمم المتحدة- وأضاف :"إذا أصرت الكويت على موقفها فستكون الخاسر
الأكبر في النهاية، وسنطالبها ودولاً عربية أخرى بتعويضات لأنها سهلت دخول
القوات الأمريكية العراق 2003، وسنعيد ترسيم الحدود". كما طالب وزير
الحوار الوطني العراقي المسؤولين الكويتيين بسحب مذكرتهم الأخيرة الموجهة
إلى الأمم المتحدة، واتهمهم بـ"مصادرة العشرات من الكيلومترات من البلاد"،
وأضاف: "مرة أخرى يخطئ بعضهم باختيار أسلوب التعامل مع العراق عبر الضغط
عليه، في وقت يحتاج فيه إلى الدعم لاستكمال مقومات حريته واستقلاله"،
واعتبر الخطوة الكويتية الأخيرة استفزازاً خطيراً وغير مبرر، وتمنى على
"الأشقاء الكويتيين" الإسراع في سحب طلبهم الموجه إلى مجلس الأمن، واعتماد
الحوارات الثنائية "أساساً لحل المشكلات العالقة"، وذّكر بمواقف كويتية
"غير ودية" تجاه العراق منها تجاوز الكويت على "عشرات الكيلومترات من
الأراضي العراقية".
في إدارة الأزمة يلاحظ أن دوائر السلطة التشريعية في البلدين كانت أكثر
تصعيداً، بما يشير إلى أن الأزمة ليست أزمة النخبتين الحاكمتين وحدهما،
وإنما هي أزمة "علاقة بين مجتمعين"، بل إن القيادات العليا كانت في
إدارتها الأزمة أكثر تعقلاً وضبطاً للنفس من أعضاء برلماني البلدين، وحتى
إذا كانت إشارات خضراء قد صدرت هنا وهناك من السلطة التنفيذية للسلطة
التشريعية بالتصعيد، فإن هذا بحد ذاته مؤشر على حدة الأزمة.
وقد طرحت آليات عديدة لإدارة الأزمة من الطرفين، منها اقتراح رئيس
البرلمان العراقي إرسال وفد برلماني للكويت لبحث الخلافات، وحض الحكومة
الكويتية على الموافقة على خروج العراق من وصاية الفصل السابع، لكن
الاقتراح لم ير النور حتى كتابة هذه السطور، ثم دعا مرة ثانية إلى تكوين
لجنة كويتية-عراقية مشتركة لتعزيز العلاقات بين البلدين، كما استخدم
النواب العراقيون آليات الرقابة البرلمانية، وعلى قمتها الاستجواب لتعزيز
دورهم في إدارة الأزمة، وإن لم يُناقش الاستجواب الخاص بوزير الخارجية حول
الموضوع. ويمكن رصد مؤشرات مماثلة لدور البرلمان الكويتي في إدارة الأزمة،
وإن خلت منه المبادرات التصالحية عموماً.
وكان للآليات الدبلوماسية دورها بطبيعة الحال في إدارة الأزمة، ويذكر في
هذا السياق اجتماع وزيري خارجية البلدين في لندن، والذي انتهى وفقاً لوزير
الخارجية الكويتي بالاتفاق على التصدي "للأصوات النشاز"، وأن يكون هناك
اجتماع عاجل للجنة العراقية-الكويتية المشتركة لبحث القضايا كافة. إلا أن
شيئاً من هذا لم يحدث.
تقدم العلاقات الكويتية-العراقية إذن شاهداً تجريبياً على استمرار نموذج
الصراعات البينية العربية الذي كشف عنه تطور النظام العربي منذ نشأته وحتى
الآن، وتؤكد الأزمة الراهنة للعلاقات أن بؤر الصراع في هذا النموذج ما
زالت "مزمنة"، وهي في حالتنا تعود إلى نشأة الكيانين العراقي والكويتي
بمعناهما الحديث في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وما زالت مستمرة حتى
الآن على الرغم من كل المتغيرات الإقليمية والعالمية التي استجدت على
المنطقة، بل إنها ما زالت تمس قضايا السيادة والسلامة الإقليمية لطرفيها
وليست مجرد خلافات حول أمور ثانوية، ولأن دور المتغير الخارجي العالمي غير
واضح حتى الآن فإن الأزمة تؤكد للأسف أن الصراعات العربية-العربية في
بعدها الأساسي تعود إلى عوامل ذاتية وليست خارجية.
وبدلاً من انتظار اجتماع قادم قريب لمجلس الأمن قد يعيد بقراراته للأزمة
حرارتها العالية، بكل ما لذلك من تداعيات على استقرار منطقة الخليج والوطن
العربي، علينا أن نفكر بهدوء في عناصر للحل. وأول هذه العناصر ضرورة تسليم
العراق بحق الكويت في التعويضات، وأن سقوط نظام صدام حسين لا يلغي
المسؤولية القانونية للحكومة العراقية الحالية، وكذلك تأكيد العراق، وهو
ما قام به مسؤولوه فعلاً، الاعتراف بسيادة دولة الكويت وسلامتها
الإقليمية، وقرارات ترسيم الحدود بين البلدين في أعقاب تحرير الكويت في
1991. وثاني العناصر ضرورة تسليم الكويت بأن الوضع الحالي للعراق وعدم
مسؤوليته السياسية عن غزو عام 1990 يقتضيان منها إبداء أقصى قدر من
المرونة في مسائل التعويضات والديون سواء من منظور قيمتها أو طريقة
سدادها؛ لأن هذا، إن لم يحدث، سوف يمكّن العراق بعد أن يتعافى تماماً من
الاحتلال الأمريكي ويسترد استقلاله بالكامل من أن يثير من منظور قانوني
أيضاً قضية تعويضات عن أضرار هذا الاحتلال قد يتم اتهام الكويت ضمن آخرين
بالمسؤولية عنها، ويعني هذا إن حدث أن العلاقات الكويتية-العراقية لن يقدر
لها أن تصل أبداً إلى بر الأمان. من ناحية أخرى من المستحسن أن يبادر كل
من مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجامعة الدول العربية بخطوات تعطي
كلاً منهما دوراً فاعلاً في تجنب أزمة سوف تمثل لهما معاً تهديداً خطيراً.
|
أعلى الصفحة
|
تعليقات القراء
|
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها
|
|
|
|
|