 أخيراً سقط صدام حسين في قبضة قوات الاحتلال الأميركي للعراق بعد أن ظن البعض أن اختفاءه يمكن أن يدوم، وكان طبيعياً أن يثير القبض عليه أوسع موجة ممكنة من ردود الفعل العراقية والعربية والدولية خاصة وقد وضعت سلطات الاحتلال اعتقاله في إطار إعلامي مدروس قصد به أن يحمل رسالة واضحة لكل من يعنيهم الأمر. كذلك كان طبيعياً أن تتباين ردود الفعل هذه بحكم أن كل نظام مهما بلغت درجة استبداده في الداخل أو عدوانيته في الخارج له خصومه وأنصاره. وبالنسبة لنظام صدام كانت صيغته وممارساته كفيلة بأن تجعل أطرافاً عديدة تتنفس الصعداء وتبتهج بل وتتشفى في أعقاب القبض عليه. هناك خصومه السياسيون داخل العراق بطبيعة الحال الذين سدت أمامهم سبل التعبير والمعارضة فهرب منهم من بقي حياً أو خارج المعتقلات إلى الخارج. وهناك شعب الكويت ونظامه اللذان كان غزو صدام للكويت في 1990 بالنسبة لهما زلزالاً مروعاً بكل المعايير. وهناك نظم عربية عديدة عاداها صدام طويلاً وحاول غير مرة تغييرها. وهناك الشعب والنظام الحاكم في إيران التي أضيرت بأضرار جسيمة بسبب حرب دامت قرابة ثماني سنوات. وهناك إسرائيل التي تجيد دائماً حساباتها الاستراتيجية ولم تغفر لصدام يوماً أنه حاول بناء قوة عراقية حقيقية، ولم يقدم أية تنازلات على صعيد إمكان القبول بها والتعايش معها، بل وقاد حملة مقاطعة مصر عندما وقعت اتفاقيتي كامب ديفيد مع إسرائيل في 1978 وصولاً إلى معاهدة للسلام في 1979، ناهيك عن دعمه للشعب الفلسطيني عامة ولأسر الاستشهاديين منهم خاصة. وهناك الإدارة الأميركية الراهنة بطبيعة الحال التي كان من شأن استمرار اختفاء صدام أن يهز مصداقيتها داخلياً وخارجياً ناهيك عن مساهمته في إرباك مشروعها في العراق. لكن الصورة في الواقع السياسي لا تكون عادة على هذا النحو من التبسيط، فهناك أطراف تبنت مواقف مناقضة تماماً أو جزئياً للمواقف السابقة أو على الأقل تحفظت عليها، وبالنسبة للداخل العراقي لا شك أن نظام صدام كانت له قاعدة قوية عشائرية وطائفية وسياسية لم يرق لها اعتقاله بطبيعة الحال، بل جرؤ آلاف من المنتمين لها على تنظيم مظاهرات تعلن استمرار التأييد لصدام أو على الأقل الغضب لاعتقاله، وبشكل خاص للطريقة المهينة التي أتى عليها. وعلى الصعيد العربي لا شك في وجود قطاع من الجماهير العربية آمن بالشعارات القومية نفسها التي رفعها صدام حسين، واعتبره أملاً في تحقيقها وساعد على ذلك أنه لم يتعرض لممارسات نظامه، وربما احتلت قطاعات من الشعب الفلسطيني مكاناً خاصاً في هذا السياق في وقت بدا أن أحداً من الشعوب أو النظم الحاكمة العربية لا يلتفت إليها على النحو الواجب في زمن احتدام المواجهة مع قوى الاحتلال الإسرائيلي، بينما كان صدام حريصاً على تبني مقولات مواتية لنضالهم، وتقديم دعم مادي لأسر الشهداء منهم بصفة خاصة. وربما كان الأهم من ذلك كله أولئك العرب الذين رأوا مثلما رأى العراقيون في واقعة اعتقال صدام وإخراجها على هذا النحو من قبل سلطات الاحتلال (إهانة قومية) ليس حباً في شخص صدام أو تقديراً لشخصه، وإنما كرهاً للاحتلال ورفضاً لكل ما يصدر عنه. لم يكن فيما حدث من ردود فعل للقبض على صدام إذاً شيء غير طبيعي من المنظور السياسي فحسب لكن كذلك فإنه من غير الطبيعي أو بالأحرى غير المقبول أن قضايا أساسية قد غابت أو غيبت في سياق هذه الواقعة المثيرة والتعليقات اللاحقة عليها، ومن حق كافة المنشغلين بمستقبل عربي أفضل أن نحاول الخروج على السيناريو الأميركي للقبض على صدام حسين ونؤكد على عدد من الملاحظات لعل أهمها ثلاثا. في الملاحظة الأولى نشير إلى أن إلقاء القبض على صدام من قبل قوات الاحتلال الأميركي قد أثار مجدداً قضية (بيدي أم بيد عمرو؟)، فقد ألقي القبض على طاغية بحق لكن من قبضوا عليه بدورهم يعكسون نوعاً آخر من الطغيان -إذا ما تجاهلنا مؤقتاً ممارساتهم في العراق- ذلك أن دخولهم إلى العراق قد تم بعمل غير شرعي لا يستند إلى أي قرار دولي صادر عن جهة اختصاص يبيح لهم غزو العراق وإسقاط نظامه. صحيح أن قرارات لاحقة من مجلس الأمن قد تعاملت مع احتلال العراق باعتباره أمراً واقعاً، لكن منطق القوة الباطشة يبدو واضحاً خلف كافة عمليات التكيف العربي والدولي التي تمت لاحقاً مع واقعة احتلال العراق، ولن يغير القبض على صدام شيئاً من واقعة (لا شرعية احتلال العراق) وشرعية الهجمات المسلحة التي تناهضه. من هنا فإنه إذا كان صدام متهماً بقتل ملايين العراقيين دون سند شرعي فإن اتهاماً مماثلاً في طبيعته يجب أن يوجه إلى من قتل آلافاً من العراقيين على الأقل في إطار عدوان غير شرعي على أرض العراق. أما الملاحظة الثانية فتنطلق من أن القبض على صدام حسين صور وكأنه الطلقة الأخيرة في المعركة من أجل الديمقراطية في الوطن العربي، وهو تصوير يتعين على كل مثقف عربي أن يساهم في بيان زيفه، فالنضال من أجل ديمقراطية حقيقية في العراق ما زال على أشده، بل إن هذا النضال ينطوي على مفارقة يحار المرء
|